ذ:ع.العزيز سنهجي |
إن أهمية مفهوم الريادة لا تكمن فقط في توجيه الممارسة التربوية الميدانية بشكل مستوعب لفلسفة الريادة في سياق التحولات الحياتية وتنوع الرهانات، وإنما أيضا في إعمال الفكر الريادي في هندسة أنشطة الفعل التربوي البيداغوجي. مما يقتضي الحرص على احترام نماذج التعلم المتجسدة أساسا في: التجريب، التعاون، المشاركة والانخراط، التنسيق بين التخصصات، التعلم الذاتي، التقييم الذاتي، التنظيم الذاتي، التعلم الجماعي والتضامني...، واستحضار المقاربات السيكوبيداغوجية المتداولة في مجالات التعلم (التفتح، الاستكشاف، الاستدماج، التملك، المأسسة...)، والتعاطي بمنطق متدرج متناغم مع تطور نضج التلميذ، وأنماط التفكير لديه انطلاقا من التفكير الاستكشافي مرورا بالتفكير التصنيفي والتقييمي وصولا إلى التفكير الاستقرائي والاستنباطي، مع تنويع تقنيات التنشيط المتجسدة عبر: لعب أدوار، تقنية فليبس 6*6، تقنية بانيل،تقنية المجموعات البؤرية، تقنية العصف الذهني، دراسة الحالات، تقنيات التشخيص الثنائي والرباعي، التمثيل، المسرح، توسيع نطاق تبادل وتقاسم التجارب، والانطلاق من حاجيات وانتظارات التلاميذ. مما يدفع كل من الأستاذ والتلميذ لإبداع تجربة فريدة ومحفزة من أجل التعلم الجماعي والتعاوني، تخرج الأستاذ من موقعه التقليدي لتجعل منه مستشارا ومصاحبا لسيرورة الريادة عبر مساعدة التلميذ على تحويل حاجياته وأحلامه وأفكاره إلى مشاريع قابلة للإنجاز والتطوير والتعديل، وتدفع في نفس الوقت التلميذ لبلورة هويته عن طريق التفكير والممارسة والتجريب والإبداع وحل المشكلات واستخدام مصادر المعرفة المختلفة واتخاذ القرارات الآنية والمستقبلية.
ولتطوير وإنماء الحس الريادي لدى التلميذ، يتم التعلم من خلال وضعيات مشكلة، مرتبطة بالحياة اليومية للتلميذ، تستحضر الجوانب التالية:
الانطلاق من وضعية لها ارتباط بالمعيش اليومي للتلميذ؛
أخذ بعين الاعتبار المكتسبات القبلية للتلميذ؛
دفع التلميذ نحو تعبئة موارده الداخلية ( معارف، مواقف، استراتيجيات، ...) وموارده الخارجية ( وقت، أشخاص، مصادر، مراجع )...؛
تفعيل مجال معين له ارتباط بكفايات مستعرضة أو بكفايات مرتبطة بمواد دراسية معينة؛
إنتاج أجوبة شخصية وأصيلة وجديدة؛
رصد وملاحظة الاستراتيجية المعرفية وما فوق معرفية للتلميذ وفق نظام للمعايير محدد ومدقق ومتعاقد بشأنه؛
عرض المنتوج على المجموعة سواء بالقسم أو المدرسة أو خارج المدرسة؛
اعتماد منظومة من المعايير لتقييم المنتوج والحكم على نجاعته ومدى مطابقة المنهجية التي اعتمدت في إنتاجه مع المعايير المتوافق بشأنها مع التلميذ بشكل مسبق.
بناء على ما سبق، وكما يؤكد ذلك فايول، تتموقع إشكالية الريادة في إطار تتلاقى وتتقاطع ضمنه ثلاثة أبعاد أساسية، يحيل الأول على الريادة كموضوع لبحث ودراسة سلوكات الأفراد والتنظيمات، بينما يحيل الثاني على الريادة كمجال للتعلم والتأهيل واستدماج المعرفة الوظيفية، في حين يحيل الثالث على الريادة كظاهرة سوسيواقتصادية تضع الأحداث والتمظهرات والذهنيات الريادية في سياقها السوسيو تاريخي. وعليه، تصبح التربية الريادية في سياق هذه الإشكالية، فن وعلم في نفس الوقت تتداخل ضمنه حقول معرفية مختلفة لعل أهمها السوسيولوجيا والاقتصاد وعلم النفس والأنتربولويجا الاجتماعية والتاريخ وعلوم التدبير الحديثة...، تبتدئ عبر برامج ريادية اختيارية أو إجبارية تنشط على هامش أو بداخل المقررات الدراسية، لتصل إلى مادة مدرسة قائمة الذات بمضامينها ومقارباتها وأهدافها ورهاناتها. ولعل أبرز رهانات التربية الريادية، هو خلق تلك الثروة الاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من المبادرة والتخيل والإرادة في النجاح والرغبة في تطوير وإبداع أنشطة انطلاقا من موارد موجودة أو موارد ينبغي استحداثها. أما الأهداف التي تروم تحقيقها التربية الريادية، فيمكن الإشارة للبعض منها، فيما يأتي:
دفع التلميذ لبناء علاقة مغايرة مع الذات ومع الآخر من خلال تمكينه من تطوير قابليات التعلم والجاهزية للعمل؛
توجيه التلميذ نحو تعبئة واستثمار مختلف الموارد واقتناص الفرص الكائنة والممكنة؛
تمكين التلميذ من تصالح مع محيطه والتعاون مع شركائه، وتجسير الهوة بين المؤسسة ومحيطها السيوسيواقتصادي؛
مواكبة التلميذ في إعداد مشاريعه الشخصية عبر تمكينه من تملك الاستراتيجيات والتقنيات التدبيرية الحديثة قصد تحقيق ذاته وإيجاد حلول مستجيبة لحاجياته ضمن انتظارات مجتمعه.
إن تطوير جودة الحياة، وتمكين التلميذ من بناء نظرته الخاصة للحياة وللعالم، يتطلب الاحتكاك بمساحات ودوائر هذه الحياة، من خلال التدخل عبر مجالات متعددة ومختلفة، حيث يصعب حصرها وجردها نظرا لاختلافها باختلاف الأنظمة التربوية والتكوينية،و تشمل هذه المجالات جميع المدخلات والسيرورات والممارسات البيداغوجية الصفية واللاصفية والمداخل التعليمية النظامية وغير النظامية، ويمكن تركيز أهمها في المحاور التالية:
مجال التوجيه والريادة: معرفة الذات وكيفية تطوير وإنماء رصيدها وأشكال استعمالاته، ومعرفة المحيط المدرسي والتكويني، وامتلاك استراتيجيات المشروع (الإعلام، اتخاذ القرار، التخطيط، التقييم ، التنظيم ،التعديل، المصادقة)،و معرفة المحيط السوسيو مهني ( الأدوار الاجتماعية، كيفيات الالتحاق والولوج للمهن والوظائف، سياقات وظروف العمل، أنظمة الترقي والتحفيز، الامتيازات والمخاطر والمنافع ...)... ؛
مجال الحياة الجماعية والمواطنة: معرفة الحقوق والواجبات والتقيد بها، احترام الاختلاف وتوظيفه من أجل تحقيق الأهداف،التعاون مع الآخرين والحرص على تحقيق الربح معهم، التعاطي بحس أخلاقي مع مختلف الوضعيات، استيعاب قواعد العيش المشترك، الحرص على الحوار وإبداء التسامح، الترافع، التفاوض، معرفة الممنوع والمباح، اقتناص الأفكار المبدعة، تدبير النزاعات والصراعات، وفتح الآفاق الجديدة...؛
مجال الصحة و جودة الحياة: المحافظة على الصحة، اكتساب عادات غذائية سليمة، تطوير الحس الوقائي، احترام قواعد السلامة، الحماية من المخاطر، الحرص على النظافة الشخصية، تدبير التوتر، ممارسة الرياضة، تبني أسلوب حياة فعال وناجع...؛
مجال البيئة والاستهلاك: اكتساب عادات سليمة في الحياة،احترام والمحافظة على البيئة بكل مكوناتها، الاستهلاك المسؤول و الحذر والمتوازن، تطوير رؤيا نقدية اتجاه الإشهار ووسائل الإعلام، القدرة على صياغة مشكلات، واقتراح حلول مبتكرة، وفتح آفاق جديدة...؛
مجال تكنولوجيا الإعلام والتواصل: توظيف التكنولوجيات الحديثة في الحياة اليومية، فهم أدوار وطبيعة تكنولوجيا الاتصال وانتقاء الأنسب منها لمختلف الوضعيات، اعتماد مختلف المصادر والوسائط والآليات للوصول للمعلومة، تنمية متعة البحث واستكشاف وتقييم وتوظيف المعلومات، التواصل بطريقة إيجابية وفعالة باعتماد مختلف التقنيات والوسائط، تقويم استعمال التكنولوجيا من الناحية الأخلاقية...
إن المجالات السالفة، تصب كلها في تطوير وإنماء منظومة الكفايات الحياتية، وهناك كثير من الأبحاث التي اهتمت بجرد وتدقيق لائحة هذه الكفايات الريادية ذات الطبيعة المستعرضة. ولحدود اليوم، لا نتوفر على لوائح نهائية وقارة لهذه الكفايات، وإنما جرد مؤقت يدور حول كفايات ذات طبيعة نفسية-اجتماعية تصب أساسا في الجوانب التالية: : الاستقلالية، المسؤولية، المثابرة، الإبداع، المبادرة، الالتزام، القدرة على التكيف، المرونة، المخاطرة، التعاون، روح الفريق...
ويمكن تصنيف هذه الكفايات وفق بعدين أساسين:
البعد الأول يتعلق بالكفايات الشخصية المتعلقة بالفرد وحافزيته: الثقة في الذات، التطور، التفكير النقدي،التفكير الإبداعي، تحيين وتجديد الطاقة، اعتماد منهجية وطريقة في الاشتغال، المبادرة ، حس المخاطرة، المرونة، اتخاذ القرار،تنظيم وتدبير الوقت ...
البعد الثاني يتعلق بالكفايات الاجتماعية: التعاون، روح الفريق، تدبير النزاعات، الاندماج، التكيف...
تأسيسا على ما سبق، يتضح بأن إرساء استراتيجية متكاملة للريادة، مؤطرة برؤية وطنية ومقاربة تشاركية مطلب ملح وحيوي لمنظومتنا التربوية، في خضم التحول التدريجي نحو الجهوية في تدبير القضايا التربوية، حيث ستمكن مختلف المتدخلين والفاعلين من داخل وخارج المنظومة من التوفر على إطار منطقي للتخطيط والتعاون والعمل على إرساء التعليم الريادي، والاشتغال وفق أطر مرجعية ودلائل عمل موجهة ومؤطرة للاشتغال، في أفق تحقيق الأمل في تركيز البرامج والمشاريع على الكفايات الريادية. علما بأن بناء وتطوير هذه الكفايات الريادية، عملية معقدة ومركبة ومتواصلة في الزمان والمكان، ومستمرة مدى الحياة، ويجب أن تدخل ضمنها كل المواد الدراسية وأنشطة الحياة المدرسية والبرامج النظامية وغير النظامية وكل الفعاليات التربوية والاجتماعية والاقتصادية. وبما أن التربية الريادية تستهدف ترسيخ منظومة من الكفايات السيكواجتماعية المشار إليها آنفا، فإنه من الصعب ترصيد وتقييم إنجازات وأعمال التلميذ الناتجة عن سيرورات التعلم الريادي، من خلال أدوات قياس بسيطة ولحظية، لاتسعفنا في الإمساك الموضوعي والشمولي بمجهودات وإنجازات التلميذ المختلفة ضمن سياقاتها المتنوعة. من أجل هذا، وفي أفق ترصيد والحفاظ على بصمات وإنتاجات التلميذ ضمن هذه السيرورة الريادية، يتم العمل بحقيبة الريادة "Portfolio.Entrepreneuriat" كأداة توثيقية وتجميعية لمجهودات التلميذ، وكآلية مهيكلة ومنظمة لتفكيره في حاضر يستشرف المستقبل ضمن سيرورة تعلمية منفتحة على الحياة ومتفاعلة مع الذات.
المرجع: جزء من مقال لي سبق وأن نشر بمجلة عالم التربية، العدد 21.
إرسال تعليق