بقلم ذ. الحسن اللحية
ماذا تعني الباكالوريا اليوم؟ وكم تكلفنا؟ و ما الأزمنة الضائعة التي تنفلت من زمن النمو و الإنتاج و المشاركة في بناء المجتمع التي تسببها الباكالوريا بهدرها لمجهود الأسر و التلاميذ و الدولة بمواردها كلها؟
بدأنا في السنوات القليلة الماضية نسمع بأن معدل الباكالوريا بلغ 17.27 أو 18/20 ، و رغم ذلك وجد الكثير من التلاميذ صعوبات كثيرة في ولوج مؤسسات عليا ، بل إن كثيرا من المنتقين في الإنتقاءات الأولية رسبوا في المباريات الكتابية أو الشفوية مما يطرح أكثر من سؤال عن المراقبة المستمرة و امتحان الباكالوريا و التقويم بشكل عام. هل النقط المحصل عليها تعكس جودة ما؟ يكفي المتتبع أن يستقرئ ما يحصل في كليات الطب و الأقسام التحضيرية و المدارس العليا للتكنولوجيا و التقني العالي ليتعرف على حجم المشاكل التي تحيط بالباكالوريا. ولعل هذه المؤشرات تنذر بقدوم ما هو أسوأ لأننا نختزل إصلاح الباكالوريا في النسب و الامتحانات و الغش و التسريبات و المراقبة دون غيرها. لكن السؤال الأساس هو: هل مازالت الباكالوريا صالحة لتكون منفذا نحو المستقبل؟
لابد و أن نعي أن المغرب تغير بنيويا، لكن نظامه التعليمي لا يعكس هذا التغيير . فمغرب الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات ليس هو مغرب التسعينيات و القرن الواحد والعشرين ، و أن أي تمثل للباكالوريا بناء على التقاليد و الذهنيات الجامدة هو عرقلة للتقدم ذاته.
إن الباكالوريا التي تشكل مطلبا اجتماعيا و اقتصاديا و علميا و معرفيا و كفاياتيا تتغير بدورها مع تغير الظروف العامة للمجتمعات، وقد كان من الضروري التفكير في تغييرها المستمر لتواكب الحاجات المتجددة للمجتمع و الأفراد و الأسر.
فما سيلاحظه المتتبع لتاريخ الإصلاحات التربوية المغربية أن الباكالوريا المغربية ظلت رهينة النزعة الكمية التسويقية مثل أعداد التلاميذ الذين سيجتازونها و نسبة النجاح. كما أن الباكالوريا ظلت سجينة ذاتها: الحصول على الباكالوريا بأي ثمن كان رغم أنها لم تعد تعكس أي مستوى اجتماعي أو معرفي ، بل و قد لا تؤدي بالحاصل عليها إلى أفق جامعي أو مهني مضمون.
فما تغفله الإصلاحات المتتالية هو : هل الباكالوريا مقدسة حتى و إن بلغ معدل النجاح 17.99 دون أن تعكس أي مستوى كيفما كان؟ ألا يعني التضخيم في المعدلات و نسب النجاح علامة على نهايتها؟ ألا يعني عدم انفتاح الباكالوريا على آفاق فعلية و على إصلاحات جذرية تهمها و تهم مؤسسات التعليم العالي برمتها هو نهاية الباكالوريا بالذات؟
لا بد من الإشارة إلى ان الباكالوريا إسفنجه/ ثقب أسود اجتماعي يرهق التلميذ(ة) و الأسر و الدولة؛ و لهذا لابد من التذكير بالأطروحات حول الانتقاء الاجتماعي و مراكمة الفشل و تأبيد الفوارق عبر الباكالوريا كما تطرقت إلى ذلك السوسيولوجيات الفرنسية. فالمؤكد أن الأسر انخرطت في مخيال السوق التعليمي (الحصول على النجاح في الباكالوريا و الحصول على الباكالوريا الناجحة بأي ثمن كان ذلك) ، و أضحت الباكالوريا (أو سلك الباكالوريا) هي السوق بالذات و يتجلي ذلك فيما يلي:
أولا: سوق الكتب الرسمية و الموازية التي تطرح نفسها ضمن مخيال السوق المعممة حول الباكالوريا، و هي كتب لا تكرس من حيث المضمون إلا التكرار و الاجترار ، و لا تستهدف غير الربح...إلخ.
ثانيا: الساعات الإضافية التي بدأت تغزو المقاهي و المنازل و مؤسسات التعليم الخصوصي ليلا ونهارا ، فضلا عن الأماكن المأجورة الخاصة دون رقابة مما يضاعف من مخيال سوق الباكالوريا و وهم النجاح في الحياة.
ثالثا: فتح مؤسسات للتعليم الخاص بسلك الباكالوريا دون مراقبة و لا تتبع و لا جودة، وحيث يعمل هذا القطاع الخصوصي في غياب القانون و الالتزام القانوني تجاه الدولة والخزينة العامة ، بل إن هذا القطاع الخصوصي أصبح مشتلا و حلا لتضخيم النقط و المعدلات (سوق المراقبة المستمرة ) ، و بالتالي فإنه يضاعف من أزمة الباكالوريا دون حسيب و لا رقيب.
لقد وجدت الأسر نفسها سجينة القطاع الخاص و الساعات الإضافية و الكتب الموازية ، و وجد القطاع الخاص نفسه مستفيدا من مخيال السوق و تساهل الوزارة على أكثر من مستوى. فهذا التعليم المتخصص في سلك الباكالوريا لا يبيع في آخر المطاف للأسر و المجتمع و الدولة إلا الأوهام ، أوهام النجاح و أوهام الشهادة و أوهام المعدل المرتفع ، و في الوقت ذاته يتعيش على قطاع التعليم العمومي من جهة الموارد البشرية ، وهكذا ينقلب إلى ثقب أسود يلتهم كل شيء و لا يلفظ غير المعدلات المرتفعة الوهمية.
إن أوهام التعليم الخاص غزت الأسر في المدن الكبرى تحديدا ، و أضحت الأسر مع هذه الأوهام سجينة الإرهاق و التعب و الشغل و البحث عن موارد إضافية لتمويل تمدرس أبنائها. و بذلك تدفع الباكالوريا الأسر نحو انتحار مؤكد، بل نحو البحث عن موارد مالية بأي طريقة كانت استجابة لوهم النجاح في المستقبل.
والأدهى من كل هذا و ذاك أن خرائط مدننا الكبرى ، بل خرائط بعض الأحياء صارت خرائط للتعليم الخاص بامتياز. فأنت مطرود من هذا الحي أو ذاك لأنك لن تستطيع تمويل معيشتك و مستلزمات تمدرس أبنائك في القطاع الخاص. إنه ترحيل جديد هادئ ماكرلساكنة الأحياء بدأ يغزو مدننا الكبيرة و يضاعف من أحلام السوق و وهم التميز.
و السؤال الذي يصمت عن طرحه الجميع في ظل أزمة الباكالوريا هو :هل يمكن الاستغناء عن الباكالوريا؟
إن الإصلاحات التي عرفها المغرب منذ الثمانينيات إلى اليوم الخاصة بالباكالوريا لم تستحضر التطورات الحاصلة في التعليم معرفيا وعلميا و تكنولوجيا ومهنيا - كما و نوعا من حيث المناهج والبرامج- و تغير الديمغرافية التعليمية و الموارد البشرية و متطلبات التعليم العالي و سوق الشغل؛ ولذلك فإن كل إصلاح عرفه المغرب انطلق من الأسفل لا من الأعلى، أي انطلق من السلك الابتدائي لا من الباكالوريا فما فوق ، و بتعبير أدق إن إصلاحاتنا في وزارة التربية الوطنية لا تستحضر التعليم العالي بالمرة ، و لنا أمثلة كثيرة في هذا الباب سنتطرق إليها في حينها.
إن كثيرا من الدول لا تفكر بالباكالوريا كعلامة تجارية غير مجدية أصلا . فالباكالوريا التي تستنزفنا دون مردودية يمكن أن تأخذ مسارا آخر بالتخلي عنها و جعلها ممرا عاديا نحو التعليم العالي مما سيفرض إصلاحا جذريا للتعليم العالي يستحضر تكافؤ الفرص و دمقرطة التعليم و توسيع بنيات استقباله و عرضه و مسالكه و شعبه و الجسور بينها.
إن إجراء مثل هذا الإجراء سينعكس على ما يلي:
أولا: الحد من الاستقطاب الذي يقوم به التعليم الخاص المتخصص في سلك الباكالوريا، ودفعه ليرتاد التجديد و الإبداع و فتح تخصصات ذات آفاق جديدة وطنيا و عالميا.
ثانيا: عقلنة التعليم الخاص بسلك الباكالوريا كي لا يظل إسفنجه تمتص كل شيء و لا تقدم أي مجهود للمساهمة في مالية الدولة والتشغيل و القيمة المعرفية للباكالوريا...إلخ.
ثالثا: وضع حد لفوضى السوق المرتبط بالباكالوريا بسن قوانين جديدة تستحضر المراقبة والتتبع و التشغيل و أداء الضرائب...إلخ.
رابعا: التفكير في إصلاح جذري للتعليم العالي على أسس جديدة تستحضر باكالوريا مغربية جديدة بتصور جديد كعماد للتقدم ، و إعادة النظر في المسالك والإجازات و التشعيب و التخصصات المهنية.
خامسا: فتح مجال التعليم العالي بمؤسساته كلها أمام الجميع و ضمان تكافؤ الفرص بين الجميع على أسس متفاوض عليها تستحضر مستقبل الدولة المغربية.
المصدر
المصدر
إرسال تعليق