«إنَّ ما هو مُهِمّ حقيقةً في تحليلاتي ليس النتائج المُحدَّدَة الصَّادِرَة، وإنَّما تكمن الأهمية في الإجراءات والعمليات التي عن طريقها يَتِمُّ الوُصُول إليْها. [فالنَّظريات] عبارة عن برامج بَحْثِيَة لا تسْتَدْعي [جَدَلاً نظرياً] وإنَّما تستدعي [اسْتِخِداماً عَمَلِياً]» [ب.بورديو]..
ما يعيشُه التَّعليم من أزَمَاتٍ، وما تعرفُه المدرسةُ من ارْتِباكٍ في نظامها التَّعْلِيميّ، هو نتيجة لِغياب سياسة تعليمية ذات أهداف تربوية، تَثْقِيفِيَّة، مبنية على البُعْد المعرفي، واكْتِساب الخِبْرات والتَّجارِب، تَجاوُباً مع ما تتطَلَّبَه الحاجات المُلِحَّة والضرورية للمجتمع، سواء في سوق الشُّغْل، أو في غيره من المجالات العامَّة والخاصَّة، وليس على الشَّحْن والمَلْءِ غير المُفيدَيْنِ، وغير المُجْدِيَيْن، لا في تربية النَّشْءِ، وفق ما تقتضيه المفاهيم والطُّرُق الحديثة للتربية، ولا في وَْضْعِهِم في سياق العلوم والمعارف المختلفة، التي أصبحت بين أهمّ ما يخرج بالإنسان من المعنى الضَّيِّق للمدرسة والجامعة، باعتبارهما فضاءً لترويج إيديولوجية الدولة أو النِّظام، وتسويقها، كفكر، وكطريقةٍ في النَّظَر للعالم والأشياء، بما يعنيه ذلك من وَضْع لهذا الإنسان خارِجَ المعنى التَّشارُكِيّ، في التَّفكير، وفي البَرْمَجَة، وفي تدبير الشأن العام، وفي المُراقبة والمُحاسَبَة.
البرامج والمُقَرَّرات، لها إطار، في ضَوْئهِ يَتِمُّ اختيار مواد التَّدريس، والمناهج التي بها تَصِلُ هذه المواد للمُتَعَلِّمين. أعني، السياسة التعليمية، التي هي خارطة الطَّريق، التي في ضَوْئِها يمكن للمدرسة أن تُبْحِر بالمُتَعَلِّم لشاطِيء الأمان. أي لِما يمكنه أن يكون طريقاً، وأُفُقاً، يهدي السَّارِيَ، ويُرْشِدِهُ، قبل أن يَعْثُر على طريقته في المَشْيِ وفي الاختيار، الذي تكون المدرسة أَهَّلَتْه له، بما أصبح لديه من حَسٍّ، أو مَلَكَة نقديّة، ومن طريقة في النَّظَر، وفي فهم الأشياء.
عندما كُنَّا نذهب إلى المدرسة، ونحن تلاميذ في مراحل التَّعَلُّم الأولى، لم نكن نَشْعُر أنَّنا طرفاً في الدَّرْس، ولا جزءاً منه، أو أنَّ هذا الدَّرْسَ يعنينا في شيء، بل إنَّنا اعتَبَرْنا الحقيقةَ ذات مصدر واحد، هو المُعَلِّم، وأنَّ النص الذي ندرسُه مُقَدَّس، لا باطِلَ يدخُل إليه، لا من يمينه، ولا من يساره. نأخُذ ما يُقال لنا دون رأي، ودون مناقشة، أو احتجاجٍ، لأنَّنا، في الأصل، كُنَّا مثل الكومبارسات الذين يُتَمِّمُون المشهد، أو يكونون أطراف ثانويةً فيه. ليس لنا لِسان، ندخل إلى القسم ونخرج منه، دون أن نكون شاركنا في شيء مِمَّا يجري فيه. ولعلَّ هذا، هو ما يجري اليوم، وبنفس الصورة، تقريباً، في الفُصوال الدراسية. المنهج، إذا كان هناك منهج، في يَدِ الأستاذ، هو من يسْتَعْمِلُه، وهو من يقترح الفرضيات، التي ستكون منطلق القراءة والتحليل، وحتَّى التأويلات، الأستاذ هو من يَصِلُ إليها، لأنَّ كُلَّ «خطوات الدرس» مبنية في «التحضير»، والأسئلة المُقْتَرَحَة من قِبَل الأستاذ، هي، بطبيعتها، لن تُفْضِيَ إلاَّ إلى هذه النتيجة، أو النتائج الموجودة بشكل مسبق.
فغياب المعنى التَّشارُكيّ في الدرس، وفي مفهوم المدرسة، باعتبارها فضاءً للحوار والنِّقاش، ولتربية الحَواسّ، والمشاعر، وتأجيج الرغبة في المعرفة، وتحرير المُتَعَلِّمِين من سلطة المُدَرِّس، ومن جبروته، ومن قُدْسِيَةِ النص وشُمولِيَتِه، وما فيه من حقيقة نهائية، مهما كانت طبيعة هذا النص، هي بين ما أدَّى إلى هذا المأزق الثقافي الذي تعرفه المدرسة. وحين أقول مأزِقاً ثقافياً، فأنا أعني بالثقافة هنا المعنى الشَّامِل للكلمة، بما تحتمله من تربية على التساؤل، وعلى التحليل والنقد والمراجعة، وعلى اعتبار النص، هو الأرض التي فيها نبذُر مختلف ألوان المعارف التي اكْتَسَبْناها، أو نعمل على اخْتِبارِها، وتجريبها، لا لِنُؤكِّدَ «حقيقة» النص، بل لنكتشف قِيَمَه المختلفة، التي تكون ثاوِيَةً في أعماقه. إنَّنا في المدرسة، لا نتعلَّم السِّباحةَ في سَطْح الماء، فقط، بل نتعلَّم الغَوْصَ في الأعماق، ونتعلَّم كيف نَجِدُ الذُّرَّ الكامِنَ في صَدَفاتِه، كما قال حافظ إبراهيم، الذي كان نَعَى على الجاهِلِين بالعربية، ما تَخْتَزِنُه هذه اللغة في قاعِها من كنوز، لا يمكن أن يبلُغَها جاهِل بها، أو شَاكٌّ في قيمتها، حاقِد على تاريخها الزَّاخِر بالإبداع والابتكارات التي لا يمكن اختزالُها في الأدب، أو في الفكر، وَحْدَهُما، بل وفي ما أنْتَجَتْه من مفاهيم ونظريات علمية، ومن كُشوفات في الطِّب وفي الرَّيّ، واستصلاح الأراضي الزراعية، أو في الرياضيات، والطِّب، وفي الفَلَك...
المدرسة، في وضعها الرَّاهِن، هي مدرسة بدون بَوْصَلَة، أو أنَّ بَوْصَلَتها فقدَت القُدرة على تحديد الاتِّجاهات. فما حدث في المدرسة من «إصلاحاتٍ»، وهي كُلُّها كانت تأتي من خارج المدرسة نفسها، أعني، لا دَوْر للمُدَرِّسين، ولا للمفتشين أو المُراقِبين التربويين، والمُخْتَصِّين في علوم التربية، دور فيها، وكذلك الآباء، دون أن أفْضَح الإقصاء المُتَعمَّد للمفكرين والمبدعين والكُتَّاب، ولعُلماء التربية، وعلماء النفس والاجتماع، فهؤلاء جميعاً، لا مكان لهم في هذا «الإصلاح» الذي لا يمكن أن يكون مفتوحاً لهؤلاء، لِما لَهُم من أفكار متقدمة، وفيها جرْأة، وتَتَّسِم، بنوع من المُغامرة التي كانت الأساس في نجاح المدارس غير العربية، التي لا تريد أن تخرج من هيمنة الدِّين، بمعناه الأيديولوجي المُغْلَق، الذي يكتفي بتدريس مواد، هي تكريس لفكر غيبي، قائم على خلط الإيمان بالأسطورة، وبَثّ الرُّعْب والخوف في النفوس، ما يترتَّب عنه نوع من الهشاشَة في شخصية وتكوين الإنسان، الذي يقبل ويُصَدِّق كل ما يُقال له، دون شَكٍّ أو اختبار، أو تَمْحيص.
وكما أكَّدْتُ سابقا في مقالات سابقة، على دور الجمال والتربية الجمالية، وعلى دور الخيال، الذي هو مقدمة، ومدخل للعلوم، وللفكر العلمي، ولانشراح العقل وانْطِلاقِة، فأنا أُؤَكِّدُ، هنا، على وضوح الرؤية في ما نريده من المدرسة، وفي طبيعة البرامج والمقررات التي تكون نتيجة لهذه الرؤية، والمعنى التَّشارُكِيّ الذي يسمح للمُتَعَلِّم ليكون مُساهِماً في بناء الدَّرس، لا باعتباره إنَاءً، أو حاوِيَة سِلَعٍ نَمْلَأها بما نشاء، وكما نشاء، وأؤَكِّد على أن يوضَع كُلّ واحد في مكانه المُناسب، وتُسْنَدَ الأمور لأهلها، لا لغيرهم ممن كانوا سبباً في هذا الفشل الذَّرِيع الذي وَصَلَتْ إليه المدرسة اليوم، وما نَجْنِيه من إخفاقات، مَسَّتِ الإنسانَ، قبل أن تشتعل النَّارُ في الهشيم.
وهنا أودّ أن أعود لدور المُدَرِّسين، ولدور الدولة في إعادة تكوينهم وتأهيلهم، وفي تَهْييء الشروط الموضوعية للتكوين، وللرفع من المستوى المعرفي للمُتَعَلِّمِين. فالتكوين المُسْتَمِر، هو بين الوسائل التي تُساعد المُدَرِّس على تَحْيِين معارفه، وتحيين مناهجه، والانفتاح على باقي مَوادّ التَّدريس التي يتقاطع معها دَرْسُه، فأستاذ اللغة العربية، له علاقة بأساتذة اللُّغات الأجنبية، ولا علاقة بأستاذ التاريخ، وبأستاذ الفلسفة، وهذا يفرض وجود جِسْر منهجي للحوار بشأن هذه الدروس، وبما يمكن أن يحدث بينها من تَجاسُرٍ وتلاقُح، لا أن يبقى كل مُدَرِّس جزيرةً قائمة بذاتها، وكأنَّ كل قِسْم مدرسة، لا علاقة لها بالمدرسة الأخرى، وهو ما يمكن أن يسري على كل مواد التدريس، وعلى كل الشُّعَب والتَّخَصُّصات.
فحين نحرم المُدَرِّس من التَّكوين، ومن التَّثْقِيف، واسْتِكْمال دراسته الجامعية، أو التَّرَقِّي، فهذا يكون من بين المعوقات التي لا نعرف ما يمكن أنه تؤدِّي له من رُدُود فعل، ونتائج سلبية، ليس على المُعَلِّم، بل وعلى المُتَعَلِّم أيضاً.
لا تحتاج المدرسة إلى مجلس أعلى، تَمَّ تفْصِيله بنفس المقاسات القديمة، وبنفس العقلية التي احْتَجَّ ضِدَّها الجميع، وبنفس الأشخاص الذين يَتَنَقَّلُون من مكان إلى آخر، وكأنَّ البلاد ليس فيها طاقات وعقول تبتكر الحلول، وتضع البرامج، أو تُخْرِج القارِبَ من الوَحَل الذي غَرِقَ فيه، بقدر ما تحتاج لفكر يَقِظٍ، ولِمُواطنٍ مُتَأَهِّبٍ للعمل ولاقتراح الحلول، دون أن يكون آلةً تستعيد تكرار وإنتاج نفس السِّلَع، بنفس الخياطَة، وبنفس الثَّوْب الذي اتَّسَعَ فَتْقٌهُ على الرَّاتِق.
إرسال تعليق