GuidePedia

0

محمد حابا ­ مفتش التوجيه التربوي ­ نيابة بولمان


من أجل منح دينامية أكثر للفعل التربوي في المؤسسات التعليمية٬ عمل الجهاز الحكومي الوصي على القطاع التربوي٬ منذ تسعينات القرن الماضي٬ على الإرساء التدريجي لمقاربة المشروع٬ حيث أصدرت العديد من المذكرات٬ وأحدثت جملة من الآليات٬ كما نظمت الكثير من اللقاءات والدورات التكوينية... وذلك سعيا وراء إقناع المجتمع المدرسي بأهمية وفضائل الانخراط في هذه الدينامية المنشودة. وقد شكلت المذكرة رقم 159 الصادرة بتاريخ 25 نونبر 2014 في شأن أجرأة الاستراتيجية الوطنية لمشروع المؤسسة٬ انطلاقة جديدة لهذا المسار٬ حيث أنه إلى جانب ترصيدها لخلاصات ومناهج الاشتغال التي تم بناؤها وإنتاجها في إطار أحد مشاريع التعاون الدولي (مشروع دعم تدبير المؤسسات التعليمية ­ ٬(PAGESM فقد توخت البساطة والواقعية في الاشتغال٬ واختارت تركيز التدخلات على الفعل التربوي المباشر.
ضمن هذا السياق٬ تحاول هذه الورقة إبراز بعض دواعي اعتماد مقاربة المشروع في الوسط التربوي٬ والوقوف عند الخلفية المؤطرة لها باعتبارها فعلا جماعيا٬ وإبراز بعض تجليات القطيعة مع الأنماط التدبيرية السائدة٬ في أفق تحسين منهجية اشتغال المؤسسات التعليمية وتحقيق الجودة المطلوبة.
 ُتعِّرف بعض الأدبيات التربوية مشروَع المؤسسة بأنه نمط تدبيري يهدف إلى وضع قطيعة مع الطرق التقليدية لاشتغال المؤسسات التعليمية٬ من خلال منحها إمكانات جديدة للتناغم والانسجام بغية تنسيق مسارات تطورها والتحكم فيها. وهو كذلك إطار منهجي وآلية عملية ضرورية لتنظيم وتفعيل مختلف الإجراءات التدبيرية والتربوية الهادفة إلى تحسين جودة العملية التربوية داخل كل مؤسسة. لذلك يمكن النظر إليه كخطة محلية لتحسين الخدمات التربوية٬ تتضمن مجموعة من العمليات المترابطة والمتناسقة والمتكاملة٬ يعدها المجتمع المدرسي وفق المقاربات التدبيرية الحديثة (المقاربة التشاركية٬ التدبير بالنتائج...)٬ وبناء على تشخيص للوضعية وتحديد للأولويات٬ وبتوافق مع الغايات والأهداف الوطنية والجهوية٬ وهي العمليات التي تقتضي عملا جماعيا وتتبعا مستمرا وفق برنامج وجدولة زمنية محددة٬ كما تخضع نتائجها للتقويم.
 وهكذا٬ تعكس مختلف التعريفات المقدمة الخلفيتين الفلسفية والعملية لمشروع المؤسسة باعتباره سعيا مستمرا لتحقيق الأهداف والغايات التربوية٬ من خلال استحضار الماضي والحاضر والمستقبل من جهة٬ واعتماد البرمجة الدقيقة للأنشطة والعمليات٬ وتوفير الأدوات والوسائل من جهة ثانية... إنه إذن تعبير عنعلاقة مستمرة بين الغايات المنشودة وبين التطبيق العملي لأعمال مبرمجة ومخططة كفيلة بتحقيق تلك الغايات. وهو بهذا المعنى يلتقي مع مفهوم التربية في بعدها الشمولي باعتبارها فعلا قصديا ونشاطا غائيا٬ كما يتناغم مع علة وجود المؤسسة التربوية كأداة للنهوض بمهام التربية والتعليم والتنشئة والتأهيل. وبناءا عليه٬ فكل مؤسسة تربويةُتَعُّد بطبيعتها حاملَة مشروٍع إن بشكل ظاهر أو ضمني.
 ورغم أن الممارسة التربوية تتضمن في طياتها مفهوم المشروع٬ فإن العمل به كآلية تدبيرية أملته مجموعة من المستجدات من قبيل أهمية اعتماد مقاربات تدبيرية جديدة تتوخى الترشيد وتتمحور حول النتائج والتقويم٬ وكذا التوجه المتزايد نحو إعمال نهج اللامركزية في تدبير الشأن العام بما يفرض أيضا لامركزية القرار التربوي٬ والبحث عن صيغ لملاءمة التربية والتكوين للحاجات والظروف الجهوية والمحلية٬ كما أن دمقرطة الولوج إلى الخدمات التربوية ساهم في تزايد أعداد المتمدرسين وتنوع الساكنة المدرسية٬ وبالتالي تنوع الحاجيات والانتظارات٬ وهو أمر قد لا يستقيم في ظل مقاربة تهمل البعد المحلي.
إن الدواعي والمبررات٬ التي تم استعراضها٬ تعكس ضرورة تجديد الممارسات التدبيرية القائمة في الوسط التربوي بشكل يفسح المجال أمام صيغ بديلة تستحضر الخصوصيات المحلية والعمل التشاركي... حيث تصبح معها المؤسسة التعليمية مجالا للفعل الجماعي٬ مع ما يتطلبه ذلك من تقاسم للمهام والسلطة والقرار٬ ثم تقاسم المسؤوليات وتحمل إيجابيات وسلبيات العمل المشترك ثم المراقبة والتقييم الجماعي. ويقتضي الفعل الجماعي٬ في إطار ثقافة المشروع٬ النظر إلى المؤسسة التعليمية كنسق مكَّون من مجموعة من العناصر المتفاعلة فيما بينها٬ حيث يتم التركيز على العلاقات بين هذه العناصر وارتباطها مع المحيط.
ومن جهة أخرى٬ تتحدث بعض الأدبيات التربوية عن أربعة أنساق داخل الوسط المدرسي يمكن للمشروع أن ُيسهم في تحقيق الانسجام بينها:
1. نسق العرض/الإنتاج (التوجيه والتخطيط٬ والشعب والمسالك٬ وتوزيع التدفقات)؛
2. نسق التعليم (طرق التدريس٬ وتكوين المدرسين٬ والمضامين...)؛
3. نسق العلاقات الداخلية (الحياة المدرسية٬ وشروط العمل٬ وتدبير الزمن والفضاء٬ واتخاذ القرار...)؛
4. نسق التبادل مع الخارج (الموارد المالية المحصل عليها من الدولة٬ ومساهمات الجماعات المحلية٬ والعلاقات مع المؤسسات الاقتصادية والتكوينية والمجتمع المدني...). 
كما ينبغي النظر إلى اشتغال المؤسسة التعليمية بمنطق العمل الجماعي على أنه تحولٌ في مسارها التدبيري والتربوي والعلائقي؛ تحولٌ قد يصل إلى درجة القطيعة مع أنماط اشتغال سابقة٬ وهي قطيعة يمكن أن تتجسد على عدة مستويات:
  • على المستوى البيداغوجي والتربوي: يسمح المشروع بالانتقال من سياق يتسم بالعمل الفرداني والانعزال والتقطيع والتجزيء٬ إلى سياق جديد يتمحور حول العمل الجماعي والتشاور واندماج التدخلات وتناغمها٬ والترابط والتنسيق بين المواد الدراسية. إنه سياق يسمح بتجميع المبادرات وتعميمها وتقاسمها٬ وتمتين العلاقة بين الفصل والمؤسسة٬ وتحديد أهداف مشتركة لجماعات مختلفة في الوسط المدرسي... غير أن بلوغ هذا المستوى من الانسجام يقتضي تقوية فرص التفاوض٬ والاشتغال على المكون الثقافي والمهني للمعنيين بغاية التأثير على الجوانب المرتبطة بمرجعياتهم الثقافية وممارساتهم المهنية وطرق اشتغالهم...؛
  • على المستوى التدبيري: يَمِّكن المشروع من إضفاء المزيد من الفعالية والمردودية والنجاعة على عمل المؤسسة مع استحضار مبدأ الشفافية٬ وهو الأمر الذي يسهم في تحفيز الفاعلين ونقلهم من مواقع التنفيذ إلى مواقع المسؤولية٬ ويسمح بتتبع استعمال الموارد٬ ومراجعة بعض الأساليب والممارسات الخفية التي يصعب مراقبتها للانتقال نحو ممارسات ظاهرة وعقلانية قائمة على تصديق مسبق وتقويم بعدي٬ ويمكن مراقبتها وتقييمها وقياس جدواها٬ وبالتالي إمكانية اعتماد مؤشرات لقياس أثر عمل المؤسسة التي تكون بهذا الانتقال قد استجابت لأهم انتظارات المجتمع المدرسي؛ ­
  • على المستوى السياسي: يعُّد المشروع أداة لدعم وتعميق الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسة من خلال تكوين الفرق واستقلاليتها٬ وتنمية قدرتها على الاقتراح ومسؤوليتها في التنفيذ. كما يسمح باتخاذ القرار بشكل جماعي٬ ويعزز الانتقال من ديمقراطية تمثيلية٬ من خلال المجالس٬ إلى ديمقراطية تشاركية تعتمد فرق العمل... وهو التحول الذي يجيب عن انتظارات الأسر والمنتخبين٬ ولاسيما فيما يرتبط بضرورة استيعاب الخصوصيات التي لا يمكن تشخيصها ومعالجتها إلا محليا؛ ­
  • على المستوى التنظيمي: تستجيب القطيعة على هذا المستوى لانتظارات المؤسسة في حد ذاتها٬ لأن اعتماد منهجية المشروع٬ باعتباره أداة للقيادة والتدبير في زمن سيادة المفاهيم الدينامية (التغيير٬ والانفتاح٬ والتوافق...)٬ يمنح المؤسسة فرصة استثمار بعض جوانب الاستقلالية المطلوبة٬ بما يسمح بنقلها من وضع التنفيذ إلى وضع التجديد والمسؤولية٬ وتحرير المبادرات والتعاقد المتفاوض بشأنه.
 إن القطع مع الممارسات السابقة والنزوع نحو إضفاء التغيير على أنماط الاشتغال يتطلب إدارة مجموعة من التناقضات المرتبطة بهذا التحول٬ وهي أساسا أربع تناقضات تقابلها أربعة مبادئ أساسية للفعل:
­ - يتمحور تناقض السلطة حول متغيري القيادة والمشاركة؛ فالمدير٬ الذي يعتبر مؤسساتيا وتنظيميا قائد مبادرات ومشاريع المؤسسة بحكم شرعيته القانونية٬ يصبح مطالبا بإشراك باقي الفاعلين التربويين والاجتماعيين٬ وبالتالي إعمال مبدأ القيادة التشاركية. إن بناء وتنفيذ المشروع يتطلب التوفيق بين المبادرة الفردية للفاعلين وفعالية الأداء الجماعي٬ كما يقتضي الربط بين حاجة الفرد إلى الاستقلالية والتدبير الذاتي٬ وضرورة وجود تدبير حازم لنجاح المشروع. ويمكن التأسيس لهذا التوازن من خلال الانتقال من التدبير البيروقراطي إلى التدبير التشاركي؛ ­
- يتمحور تناقض الانسجام حول مبدأي الوحدة والاستقلالية؛ فمنطق الوحدة ينظر للمؤسسة التعليمية كجهاز تنفيذ مطالب بتحقيق الأهداف الموحدة وطنيا٬ فيما يقوم مبدأ الاستقلالية على التواصل الموسع مع الفاعلين والثقة في إمكانياتهم والتقويم البعدي لمبادراتهم٬ لذا يتطلب تدبير هذا التناقض البحث عن الانسجام بين الوطني والمحلي عبر سيرورة من التفاوض والتعاقد٬ مما يجعل المشروع أرضية اتفاق بين البعدين٬ وعامل توازن بين المنفعة العامة والمنفعة الخاصة؛ ­
يرتبط تناقض المجال بمدى قدرة المؤسسة التعليمية على الانفتاح على محيطها والتواصل معه بغية استدماج مقترحاته ومتطلباته لتطوير مهمتها التربوية. وبحكم ارتباط التغيير بالانفتاح٬ فإن الأمر يفترض إشراك الفاعلين في عملية تفاوض بهدف التوافق مع متطلبات المحيط. فالمشروع أداة للتفاوض والتعاقد مع السلطة الوصية والمحيط٬ كما أن العلاقات التعاقدية تغير الصورة حول مؤسسة منغلقة؛ ­
- يرتبط تناقض الزمن بمتغيري التقليد والتجديد٬ فتدبير المؤسسة بنمط جماعي تشاركي متجدد من خلال المشروع يتطلب إجماعا من طرف مختلف العقليات المختلفة ثقافيا حول مستقبل مشترك للمؤسسة٬ وبما أن المشروع يعني القدرة على التوقع وتدبير التغيير والتغيير المخطط٬ لأنه ينظر إلى نتائج المشروع كتغييرات مقبولة مخطط لها ومتحكم فيها٬ فإن إشراك الفاعلين والمراهنة على عامل الزمن كفيل بتطوير العقليات وتغيير تصوراتها٬ دون الانجرار نحو تبني مواقف مقاومة ومعادية للتغيير.
ويبقى من شأن الاشتغال بالمشروع إعطاء الفرصة للمبادرة الشخصية للفاعلين بما يرفع من درجة حافزيتهم. فهو يسمح لهم بالمشاركة في صياغة أهداف تدخلاتهم٬ ويحترم كفاءاتهم واختصاصاتهم عند التنفيذ٬ ويسمح بتتبع المنجز من الأعمال والحصول على تغذية راجعة٬ وكل ذلك يمنح معنى لهذه التدخلات. كما أن احترام هوية وقيم الفاعلين٬ وفسح المجال للتعاون والعمل المشترك فيما بينهم٬ُيَمِّكن من تحقيق الانسجام بينهم سواء داخل المؤسسة أو خارجها٬ وترسيخ التناغم بين مختلف مستويات المنظومة وذلك عن طريق ابتكار طرق عمل محلية لتنفيذ الأهداف الوطنية٬ وتحقيق الانسجام مع طرق التدبير المعتمدة في مجالات الشأن العام ومع خصوصيات المرحلة المتسمة بالتغيير.
مراجع:
 . وزارة التربية الوطنية: مشروع المؤسسة٬ دليل مرجعي2008 ٬
 . محمد الدريج: مشروع المؤسسة٬ ج ٬2 دفاتر في التربية٬ منشورات رمسيس٬ الرباط1996 ٬.
 Bouvier, A; "Management et projet"; Hachette Education; Paris; 1994. ­ Bouvier, A; "L’établissement scolaire apprenant"; Hachette Éducation; Paris; 2001. ­ Obin, J­P. Cros, F; "Le projet d’établissement"; Hachette Éducation; Paris; 1991. ­ Foudriat, M; "Sociologie des organisations"; Paris; 2005. ­ Dumas, B. Séguier, M; "Construire des actions collectives"; Chronique sociale; Lyon; 2004. ­ Obin. J­P ; "La crise de l’organisation scolaire", Hachette éducation, Paris, 1993. 

إرسال تعليق

 
Top