GuidePedia

0

تمهيــــــد :
جرب المغرب بصفة خاصة و العالم العربي بصفة عامة عدة نظريات تربوية كنظريات التربية الحديثة و نظرية الأهداف السلوكية ، و نظرية الكفايات ، و بيداغوجيا المجزوءات .و ما زال البحث مستمرا لإيجاد نظريات تعليمية أخرى موجودة في الساحة التربوية الغربية من أجل تجريبها في مدارسنا و مؤسساتنا الوطنية قصد تطبيقها و ممارستها رغبة في التحقق من نجاعتها و فعاليتها . و الهدف من هذا البحث عن المستجدات التربوية النظرية و الإجرائية هو تجديد الوضع البيداغوجي و الديداكتيكي و إيجاد الحلول الممكنة للمشاكل التي يتخبط فيها تعليمنا من المستوى الابتدائي حتى المستوى الجامعي ، و الذي أصبح يخرج أفواجا كثيرة من الطلبة الحاصلين على الشواهد العليا ، و لكن بدون قيمة و لا جدوى ، إذ سرعان ما يجدون أنفسهم بعد التخرج عاطلين و بطالين بدون عمل و بدون كفاءة وظيفية تساعدهم على تدبير شؤون حياتهم على الرغم من حاجة المجتمع الماسة إليهم .

هذا ما دفع الكثير من الدول العربية و منهم المغرب إلى استيراد النظريات التربوية الغربية التي وضعت و بلورت في سياق غربي لتكييفها مع الأوضاع المحلية و استنباتها بشكل تعسفي لا يراعي خصوصياته ، و يحاول زرعها في تربة تأبى الاستجابة نظرا لاختلاف بيئة المصدر و المستورد الذي يرى في هذه النظرية المستنبتة حلا سحريا لإنقاذ الوضع التعليمي المتدهور .

و ندعو في هذه الدراسة المتواضعة إلى تطبيق نظرية جديدة سميناها بالنظرية الإبداعية أو البيداغوجيا الإبداعية . إذاً، ما هي هذه النظرية ؟ و ما هو سياقها الظرفي ؟ و ما هي غاياتها و أهدافها؟ و ما هي مرجعياتها النظرية و مرتكزاتها المنهجية و التطبيقية ؟سياق النظرية التربوية الإبداعية :
من المعلوم أن هناك ثلاث مدارس بارزة في المنظومة التربوية العالمية ، فهناك مدرسة تغير المجتمع كما هو الحال في اليابان ، و مدرسة يغيرها المجتمع كما في دول العالم الثالث ، و مدرسة تتغير بتغير المجتمع كما هو شأن المدرسة في الدول الغربية .و إذا أردنا أن نعرف طبيعة المدرسة المغربية فهي مدرسة محافظة تهدف إلى تكوين مواطن صالح بمفهوم السلطة الحاكمة ، يحافظ على قيم المجتمع و أعرافه و عاداته و تقاليده .

و يعني هذا أن المدرسة المغربية تقوم بنفس الوظيفة الاجتماعية التي أشار إليها إميل دوركايم و التي تتمثل في التنشئة التربوية و التهذيبية و توريث المتعلم نفس القيم الاجتماعية التي كانت عند آبائه و أجداده من أجل التكيف و التأقلم مع أوضاع المجتمع و قوانينه . أي تقوم المدرسة بإدماج الفرد داخل المجتمع و تسهر على تربيته عبر مؤسسات صغرى و كبرى من أجل الحفاظ على مكتسبات المجتمع .

و من هنا ، فهذه المدرسة مؤسسة محافظة تكرس التخلف و تعطي المشروعية للطبقة الحاكمة لكي تستمر في السيطرة على السلطة دون التفكير في تغيير المجتمع من أجل اللحاق بالدول المتقدمة . و بالتالي ، تنعدم عند هذه المدرسة الأهداف الوطنية الحقيقية التي تعمل على زرع الوطنية الصادقة في نفوس المواطنين و بناء الإنسان و الاحتكام إلى احترام حقوقه و تمثل الديمقراطية و الشورى و مبادئ الحريات الخاصة و العامة . و تفتقد هذه المدرسة كذلك الأهداف القومية التي تعمل على تطوير الأمة العربية و الإسلامية و تسعى إلى تغيير أوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية .

و نستخلص من هذا أن المدرسة المغربية مدرسة متخلفة محافظة تكرس التبعية و تعمل على تكوين الورثة بمفهوم بيير بورديو P.Bourdieu كما يوضح ذلك في كتابه” الورثة Les Héritiers ” ، كما أن الأوضاع الاقتصادية و الضغوطات الاجتماعية و المؤسسات الدولية الخارجية هي التي تغير المدرسة المغربية و تؤثر فيها سلبا

.و يمكن القول : إن المدرسة المغربية قطعت عدة أشواط و عرفت عدة أنماط في مسارها البيداغوجي و الديداكتيكي، و يمكن حصرها في المسارات التالية

:المدرسة الاستعمارية التي ظهرت إبان الحماية من 1912م إلى 1956 م ، و كانت تهدف إلى القضاء على الكتاتيب الدينية و الجوامع القرآنية و محو ثوابت الأمة المغربية و التشديد على الفصل بين البرابرة و إخوانهم العرب مع صدور الظهير البربري سنة 1930م، و محاربة كل النزعات الثورية التحررية التي تسعى من أجل استقلال المغرب . و كانت هذه المدرسة تعمل أيضا على ضرب الوحدة الوطنية و الطعن في اللغة العربية و التشكيك في الدين و القيم الإسلامية و الهوية المغربية عن طريق محاولات التنصير و فرنسة المؤسسات التعليمية المعاصرة .

مرحلة التأسيس وبناء المدرسة الوطنية التي ظهرت بعد الاستقلال مباشرة بتطبيق المبادئ الأربعة، وهي : التعميم و التوحيد و التعريب و المغربة .


مرحلة الاستواء والعطاء والإنتاج إبان مرحلة السبعينيات من القرن العشرين إذ ساهمت المدرسة المغربية في تكوين جيل من الأطر المتميزة و المتفتحة التي عرفت بالإبداع و المساهمة الكبيرة في تحريك الاقتصاد المغربي و إغناء الثقافة العربية و إثراء الفكر الإنساني .

مرحلة النكوص والتراجع التي بدأت مع سياسة التقويم الهيكلي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين ، إذ تراجعت المدرسة المغربية عن جودتها الكمية و الكيفية بسبب الأزمات التي كان يتخبط فيها المغرب سياسيا و اقتصاديا و عسكريا و اجتماعيا و ثقافيا خاصة مع حرب الصحراء ، زيادة على الضغوطات الدولية الخارجية التي تتمظهر بكل وضوح في قرارات المؤسسات المالية كمؤسسة البنك العالمي و مؤسسة صندوق النقد الدولي .


مرحلة الإصلاح التربوي التي بدأت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي و بداية الألفية الثالثة ، و قد استهدفت الدولة ضمن هذه المرحلة إنقاذ الوضع التربوي المغربي المتردي الذي أصبح لا ينسجم مع شروط و معايير المدرسة الدولية ؛ مما يسبب تراجع مستوى التلاميذ و الطلبة و انعدام مصداقية الشواهد المغربية ، و لاسيما شهادة الباكلوريا التي تراجع مستواها العلمي الحقيقي .

هذا ما جعل المسئولين يفكرون في إصلاح التعليم عن طريق إيجاد “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، مع الاستفادة من بيداغوجيا المجزوءات و بيداغوجيا الكفايات و رفع شعار الجودة التربوية . و على الرغم من جدية و أهمية مبادئ” الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، فلم تتحقق الجودة التي كانت تنادي بها وزارة التربية الوطنية و التعليم العالي و تكوين الأطر، إذ كانت الوزارة تشتغل على تحقيق الجودة الكمية على حساب الجودة الكيفية و هي الجودة الحقيقية و الجودة المطلوبة .

و لهذا السبب، أفرزت الوزارة مؤسسات تعليمية متعثرة ماديا و ماليا و معنويا تفتقد إلى الجودة العلمية و المشروعية البيداغوجية و المصداقية الأخلاقية و بالتالي، انعدمت الثقة لدى المربين و الأسر و الإداريين في المدرسة المغربية التي أصبحت مدرسة لتفريخ العاطلين و اليائسين من مستقبل البلاد . لذلك يختار الطلبة المتخرجون الهجرة السرية إلى الضفة الأخرى حلا لمشاكلهم و ملاذا لوضع نهاية لحياتهم المأساوية داخل وطنهم الذي يعج بالمفارقات و التناقضات على جميع الأصعدة و المستويات .


و تستلزم كل هذه المراحل التي تؤرخ لتطور السياسة التعليمية و الفلسفة التربوية إعادة النظر في النظام البيداغوجي المغربي و التفكير في فلسفات تربوية أخرى جديرة بإنقاذ المدرسة الوطنية من أزماتها و مشاكلها التي تتخبط فيها من أجل تحقيق جودة حقيقية و حداثة تقدمية تؤهل المغرب للحاق بمصاف الدول النامية أولا و الدول المتقدمة ثانيا .

و من النظريات التربوية التي نرى أنها كفيلة بإخراج المغرب من شرنقة التخلف و الانحطاط نختار لكم – أيها السادة القراء الفضلاء- النظرية التربوية الإبداعية . فما هو مفهوم هذه النظرية ؟

مفهوم النظرية الإبداعية :
تشتق كلمة الإبداعية من فعل بدع و أبدع . فبدع الشيء”يبدعه بدعا و ابتدعه – في ” لسان العرب” لابن منظور- بمعنى أنشأه و بدأه . و بدع الركية : استنبطها و أحدثها . وركي بديع: حديثة الحفر، و البدعة : الحدث و ما ابتدع من الدين بعد الإكمال . و فلان بدع في هذا الأمر أي أول و لم يسبقه أحد . و أبدع و ابتدع و تبدع: أتى ببدعة . و البديع : من أسماء الله تعالى . و البديع : بمعنى السقاء و الحبل . و البديع : الزق الجديد و السقاء الجديد . و أبدعت الإبل كبركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال يقال:أبدعت به راحلته إذا ظلعت . و يقال أبدع فلان بفلان إذا قطع به و خذله و لم يقم بحاجته . و أبدعت حجة فلان أي بطلت حجته أي بطلت . و بدع يبدع فهو بديع إذا سمن . و أبدعوا به : ضربوه . و أبدع بالسفر و بالحج : عزم عليه ” .و تدل كلمة الإبداعية Créativité في القواميس الأجنبية على القدرة على الإبداع و الاختراع و التجديد و الإنشاء و التأليف و التكوين و التأسيس و الإخراج و الخلق . و من أضداد الإبداع في هذه القواميس التقليد و اللاوجود و الهدم و التخريب و النقل و النفي .

و يفهم من خلال هذه الدلالات اللغوية الاشتقاقية أن الإبداعية تدل على الخلق و الاختراع و الاكتشاف و التجديد و التحديث و تجاوز التقليد و المحاكاة إلى ما هو أصيل و بناء و هادف .

و من هنا ، فالإبداعية هو فعل الإنشاء و خلق أشياء جديدة و بلورة تصورات و أفكار و مشاريع أخاذة قائمة على اختراع مفاهيم جديدة و ابتكار مناهج و طرائق حديثة في التعامل مع الظواهر المادية و المعنوية .و تأخذ كلمة الإبداعية دلالات تختلف من حقل إلى آخر، فالإبداعية في التصور الديني هو خلق الله للعالم و الإنسان من العدم، أي من لاشيء . و من ثم، فكلمة الإبداعية ترادف الخلق و الإيجاد و إنشاء الكون

.بينما الإبداع في المجال الفقهي هو البدع و المستجدات التي لم يستوجبها الشرع ، فكل بدعة ضالة و كل ضلالة في النار، و أصحاب البدع هم أصحاب المستحدثات .أما في المجال العلمي، فتعني الإبداعية الاختراع و الاكتشاف. بينما يقصد بها في مجال الأدب و الفن و الفلسفة خلق نظريات و تصورات فكرية و مبادئ نسقية جديدة منسجمة و غير متناقضة، و تأليف نصوص تمتاز بالحداثة و التجديد و الانزياح و الغرابة و الخرق

.و يفهم من الإبداعية في مجال اللسانيات التوليدية التحويلية التي وضع أسسها النظرية و التطبيقية الأمريكي نوام شومسكي N.Chomsky خلق جمل لا متناهية العدد بواسطة قواعد متناهية العدد ، أو تغيير القواعد النحوية و تبديلها : ” إن الإنسان ليس مالكا لدولاب اللغة فحسب، فعند التحدث لا يكتفي بإعادة الجمل، بل يخلق جملا جديدة ربما لم يسمعها قبل . وبالتالي، فالحديث ليس إعادة لجمل سمعت بل هو عملية إبداع و يبدو أن هذا هو المظهر الأساسي الموجود بالقوة .يقول الفرنسي نيكولا رفيت Nicolas Ruvet:” إنه من الاستثنائي و النادر إعادة الجمل، فالإبداع المتفق مع نحو اللغة هو القاعدة في الاستعمال العادي للتحدث يوميا . و الفكرة القائلة إن الإنسان يملك رصيدا لغويا ، ذخيرة من البيانات يأخذ منها كلما استدعت الحاجة لذلك، إنما هي خرافة لا تمت بصلة إلى استعمال اللغة كما نلاحظه. و يميز شومسكي بين نوعين من الإبداع :

أ- إبداع يبدل القواعد النحوية وهو خاصية الموجود بالفعل.

ب- إبداع يمكننا من إيجاد عدد لا متناه من الجمل و هو ناتج عن تطبيق القواعد النحوية . هذا الإبداع يسمى إبداعا محكوما بالقواعد . و وجوده ممكن بطبيعة القوانين النحوية نفسها التي يمكن لها أن تتوالد إلى ما لا نهاية .

و على هذا المنوال، يصير الموجود بالقوة كمجموعة مكونة من عدد محدود من القوانين و قادرة على إنشاء عدد لا محدود من الجمل.

مفهوم الإبداعية في مجال البيداغوجيا :
يقصد بالنظرية الإبداعية في مجال البيداغوجيا أن يكون المتعلم أو المتمدرس مبدعا قادرا على التأليف و الإنتاج و مواجهة الوضعيات الصعبة المعقدة بما اكتسبه من تعلمات و خبرات معرفية و منهجية. و تتمظهر الإبداعية في الاختراع و الاكتشاف و تركيب ما هو آلي و تقني ، و تطوير ما هو موجود و مستورد من الأشياء و إخراجها في حلة جديدة و بطريقة أكثر إتقانا و جودة .

و لا بد أن يكون ما هو مطور قائما على البساطة و المرونة و الفعالية التقنية و الإلكترونية و سهولة الاستعمال .و تستند الإبداعية إلى الذكاء و امتلاك الكفاءة و القدرات الذاتية التعلمية في مواجهة أسئلة الواقع الموضوعي عن طريق تشغيل ما درسه المتعلم و استوعبه في السنة الدراسية أو عبر امتداد الأسلاك الدراسية في التكيف مع الواقع و التأقلم معه إما محافظة و إما تغييرا

.و قد تعتمد الإبداعية على تحليل النصوص و تشريحها و تأويلها و القدرة على استنباط معانيها السطحية و الثاوية في العمق، و قد تتجاوز الإبداعية هذا المفهوم التحليلي النصي إلى تقديم تصورات فكرية نسقية جديدة حول الإنسان و المعرفة و الكون و القيم تضاف إلى الأفكار الفلسفية الموجودة في الساحة الثقافية .و يمكن أن تكون الإبداعية هي تجريب نظريات و فرضيات علمية جديدة و الإدلاء بأطروحات منهجية و معرفية تسعف الإنسان أو الدولة على استثمارها للصالح العام .و يمكن أن تكون الإبداعية في مجال الفن هو رسم لوحات تشكيلية و نحت مشخصات تنم عن تصورات حديثة أو إخراج فيلم أو مسلسل أو مسرحية فيها الكثير من الإضافات الفنية الجديدة .

و من هنا، فالإبداعية نظرية تربوية تهدف إلى تربية التلميذ و تعويده على الخلق و الإنتاج و الإبداع و الابتكار و الاختراع و التجديد و التطوير و التركيب و التأليف بعد عمليات التدريب و التمرين و المحاكاة، و تمثل المعارف السابقة المخزنة في الذاكرة و تفتيقها أثناء مواجهة الوضعيات الجديدة في الواقع الميداني و النظري و الافتراضي .

مرتكزات النظرية الإبداعية :
تتكئ النظرية الإبداعية التربوية على مجموعة من الأسس و المرتكزات ، و من أهمها : السعي الدائم وراء التحديث و التجديد و تفادي التكرار و استنساخ ما هو موجود سلفا ، و تجنب أوهام الحداثة الأدونيسية، و اعتماد حداثة حقيقية وظيفية بناءة و هادفة تنفع الإنسان في صيرورته التاريخية و الاجتماعية. و لن تتحقق هذه الحداثة إلا بالتعلم الذاتي و تطبيق البيداغوجيا اللاتوجيهية أو المؤسساتية و دمقرطة الدولة و كل مؤسساتها التابعة لها .

و يعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية لن تنجح في الدول التي تحتكم إلى القوة و الحديد و تسن نظاما ديكتاتوريا مستبدا ؛ لأن الثقافة الإبداعية هي ثقافة تغييرية راديكالية ضد أنظمة التسلط و القهر .و لا يمكن الحديث أيضا عن النظرية الإبداعية إلا إذا كان هناك تشجيع كبير لفلسفة التخطيط و البناء و إعادة البناء و الاختراع و الاكتشاف و تطوير القدرات الذاتية و المادية من أجل مواجهة كل التحديات

.و من الشروط التي تستوجبها النظرية الإبداعية الاحتكام الدائم إلى الجودة الحقيقية كما وكيفا ، و التي لا يمكن الحصول عليها إلا بتخليق المتعلم و المواطن و المجتمع بصفة عامة . و يعد الإتقان من الشروط الأساسية لما هو إبداعي ؛ لأن الإسلام حث على إتقان العمل و حرم الغش و الربح الحرام .و لا بد من ضبط النفس أثناء التجريب و الاختبار و تنفيذ المشاريع العلمية و التقنية ، و التروي في إبداعاتنا على جميع الأصعدة و المستويات و القطاعات الإنتاجية ، و الاشتغال في فريق تربوي و الانفتاح على المحيط العالمي قصد الاستفادة من تجارب الآخرين ، و المساهمة بدورنا في خدمة الإنسان كيفما كان . و من هنا، لابد أن يكون التعليم الإبداعي منفتحا على محيطه و في خدمة التنمية المحلية و الجهوية و الوطنية و القومية و الإنسانية .

و ترفض النظرية الإبداعية التقليد و المحاكاة العمياء و الاتكال على الآخرين و استيراد كل ما هو جاهز ، و استبدال كل ذلك بالتخطيط المعقلن و إنتاج الأفكار و النظريات عن طريق التفكير في الحاضر و المستقبل، و تمثل التوجهات البراغماتية العملية المفيدة ، و لكن بشرط تخليقها لمصلحة الإنسان بصفة عامة .

هذا ، و ينبغي أن ينصب الإبداع على ما هو أدبي و فني و فكري و علمي و تقني و مهني و صناعي في إطار نسق منسجم و متناغم لتحقيق التنمية الحقيقية و التقدم و الازدهار النافع لوطننا و أمتنا .و من المعلوم أن الدول الغربيةلم تتقدم إلا بتشجيع الحريات الخاصة و العامة و إرساء الديمقراطية الحقيقية و تشجيع العمل و تحفيز العاملين ماديا و معنويا . و من ثم، تعتبر النظرية الإبداعية فكرة التشجيع و التحفيز و تقديم المكافآت المادية و الرمزية من أهم مقومات البيداغوجيا العملية الحقيقية، و من أهم أسس التربية المستقبلية القائمة على الاستكشاف و الاختراع .المرجعيات النظرية التي تعتمد عليها البيداغوجيا الإبداعية :

تستوحي البيداغوجيا الإبداعية مرتكزاتها النظرية و التطبيقية من نظرية اللسانيات التوليدية التحويلية التي ركزت كثير على الإبداعية اللغوية على مستوى الإنجاز و توليد الجمل اللامتناهية العدد من خلال قواعد نهائية و محددة و استعمالها بشكل إبداعي متجدد . كما تعتمد النظرية الإبداعية على بيداغوجيا الأهداف و الكفايات و المجزوءات و نظرية الجودة التربوية و تبني مبادئ التربية الحديثة و المعاصرة مع تمثل الفلسفة البراغماتية المخلقة و تنفيذ مقررات الحياة المدرسية و التنشيط التربوي .و من جهة أخرى ، تستلهم هذه النظرية التجارب التربوية في الدول الغربية المتقدمة التي تربط المدرسة و التعليم بالممارسة العملية و سوق الشغل و البحث العلمي و الاختراع الآلي ، و التقني و تقرنه كذلك بالتنمية و التقدم و الازدهار

.فلسفة البيداغوجيا الإبداعية وغاياتها :
تهدف البيداغوجيا الإبداعية إلى تكوين مواطن صالح يغير مجتمعه و يساهم في تطويره و الرفع من مراتبه كما يساهم في الحفاظ على كينونة أمته و مقوماتها الدينية ، و يسعى جاهدا من أجل تنميتها بشريا و ماديا و حمايتها من المعتدين عن طريق الدفاع عنها بالنفس و النفيس، و إعداد القوة البشرية و العلمية و التقنية من أجل المجابهة و التحصين .

و يعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية نظرية تعمل على تكوين جيل من المتعلمين يمتلك العلم و التكنولوجيا و القدرات الكفائية في جميع التخصصات من أجل تسيير دفة المجتمع و توجيهه الوجهة الحسنة و  السليمة ، مع تحلي هذا الجيل بالأخلاق الفاضلة التي تؤهله لخدمة المجتمع و الوطن و الأمة على حد سواء .

و من أهداف البيداغوجيا الإبداعية العمل على خلق مدرسة عملية نشيطة يحس فيها التلميذ بالحرية و الخلق و الإبداع . و بالتالي ، تتحول هذه المدرسة إلى ورشات تقنية و مقاولات صناعية و مختبرات علمية و محترفات أدبية و قاعات فنية من أجل المساهمة في الاقتصاد الوطني و العالمي .

و لا بد أن يتعود التلميذ في هذه المدرسة على التحكم في الآلة و تفكيكها و تركيبها و تطويرها ، و اختراع آلات جديدة لتنمية الاقتصاد و تحديث الصناعة الوطنية على غرار المدارس الآسيوية في دول التنينات أو اليابان أو المدارس الغربية.و لا يمكن أن نخلق تلميذا مبدعا إلا إذا كانت الإدارة و هيئة التعليم و الإشراف تتوخى التغيير و الإبداع و تهوى التنشيط ، و لها الرغبة الحقيقية في العمل الهادف المتنامي و القدرة على المساهمة في البناء و الخلق و التطوير و التجديد من أجل تحقيق الأهداف الوطنية و القومية .

و لا يمكن كذلك أن نحصل على هذه الشرائح المبدعة الراغبة في الخلق و التطوير و التحديث إلا إذا حسننا أوضاعها المادية و المالية و حفزناها معنويا و شجعناها ، و وضعنا كل شخص في مكانه المناسب اعتمادا على معايير العمل و العلم مع إبعاد الترقية بالأقدمية و الاختيار التي تسيء إلى الفلسفة الإبداعية و بيداغوجيا الخلق و التجديد .

الإجراء العملي للبيداغوجيا الإبداعية :
لتحقيق البيداغوجيا الإبداعية لا بد من المرور بمراحل أساسية حسب مسار التعلم و تعاقب أسلاك المدرسة من المستوى الابتدائي حتى المستوى الجامعي .تبدأ البيداغوجيا الإبداعية منهجيا بالتقليد و المحاكاة و التدريب و التمرين و تمثل ما هو جاهز سلفا في الأسلاك الدراسية الأولى بشكل مؤقت ، لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة التركيب و إعادة الإنتاج و التوليد و التجريب في الأسلاك الدراسية المتوالية ، لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة الإبداع و الخلق و التجديد و التحديث و الانزياح و الاستقلال بتصورات و مشاريع علمية و تقنية و فنية و أدبية جديدة لها مواصفات الملكية القانونية و الإبداعية .

و تنتهي هذه المراحل بالتطبيق و إنجاز المشاريع الإبداعية إجرائيا و واقعيا في الميدان و ربط ما هو نظري بالممارسة و التطبيق الفوري.و عليه، تعتمد البيداغوجيا الإبداعية على المراحل التالية:مرحلة التقليد و المحاكاة و التدريب ؛
مرحلة التجريب و التركيب و إعادة البناء ؛
مرحلة الخلق و الإبداع و التجديد و التحديث ؛
مرحلة التطبيق و الإنجاز و الممارسة الميدانية .
و تستلزم البيداغوجيا الإبداعية أثناء وضع المقررات و المناهج و البرامج الدراسية أن تحترم هذه المراحل و الخطوات البيداغوجية و الديداكتيكية . و لا بد كذلك من تمثل مبادئ الحياة المدرسية و إيقاع التنشيط المدرسي و تغيير استعمالات الزمن لتواكب هذه النظرية و تأهيل الأطر التربوية و الإدارية و أطر الإشراف لتكون في مستوى هذه النظرية البيداغوجية الجديدة .و ننبه المسؤولين عن قطاع التربية و التعليم أن هذه النظرية لايمكن أن تنجح إلا إذا شيدت مدارس الورشات و المختبرات و المحترفات ، أي لابد أن تكون المدرسة نظرية و تطبيقية تجمع بين ما هو نظري و ما هو مهني و عملي ، و تكون بمثابة ورشة تقنية و مختبر علمي و قاعة للفنون و الآداب و متحف لعرض المنتجات الفنية و مسبح لتعلم السباحة و قاعة للرياضة البدنية لخلق أجيال رياضية تساهم في رفع راية الوطن في أعالي السماء.

و من هنا ، فلابد أن يكون الإبداع شاملا و مترابطا و متناسقا، و لابد أيضا من بناء مؤسسات تربوية خاصة بالمتفوقين و الأذكياء و العباقرة كما هو الشأن في الدول الغربية و في روسيا نظرا لما لهؤلاء من قدرات خارقة يمكن استغلالها في اختراع الأسلحة المتطورة و إنتاج النظريات العلمية و الأدبية و التقنية من أجل تحقيق التقدم و الازدهار .و ينبغي أن تكون المقررات الدراسية عبارة عن وضعيات مقلقة و صعبة ذات مصداقية عملية و علمية و واقعية و ذات أهداف مفيدة و نافعة في الحاضر و المستقبل .

خاتمــــة :
و يتضح لنا في الأخير بعد هذا العرض النظري الوجيز أن البيداغوجيا الإبداعية هي نظرية تهدف إلى بناء مستقبل تربوي حداثي قائم على الخلق و التطوير و الإبداع و الاكتشاف و الخلق بعد المرور الضروري من مرحلة التقليد و المحاكاة و التدريب ، و كل ذلك من أجل خلق مجتمع متنور كفء قادر على مواجهة التحديات الموضوعية و الواقعية و الدولية على جميع الأصعدة و المستويات و القطاعات الإنتاجية . بيد أن هذه النظرية التربوية الإبداعية لا يمكن أن تحقق ثمارها المرجوة إلا في مجتمع العمل و الحريات الخاصة و العامة و الديمقراطية المتخلقة .

و لا يمكن تطبيق هذه البيداغوجيا الجديدة إلا إذا أسسنا مدارس الورشات و المختبرات و المحترفات ، و عودنا المتعلم/ المتمدرس على حب الآلة و الفن و التجريب العلمي و تطبيق النظريات ، و دربناه على فعل التنشيط التخيلي و الرياضي ، و ساعدناه على تمثل فلسفة المنافسة و التسابق و الاختراع ، و فعلنا الفلسفة البراغماتية ذات التوجهات العملية و الإنسانية و الاستكشافية في الحاضر و المستقبل ، و خلقناها دينيا و خلقيا من أجل بناء مجتمع إسلامي مزدهر، يساهم في التنمية العالمية عن طريق التصنيع و إنتاج النظريات و اختراع المركبات الآلية و تحقيق الاكتفاء الذاتي و تصنيع الأسلحة المتطورة الحديثة لتأمين وطننا و أمتنا من العدوان الخارجي و الحفاظ على كرامتنا و أنفتنا ، بدلا من الذل و الضيم اللذين نعيش فيهما اليوم من جراء تخلفنا و انحطاطنا و انبطاحنا التاريخي و الخلقي .

كاتب المقالة : الدكتور جميل حمداوي      
تاريخ النشر : 18/06/2010            
من موقع : مجلة مدرستي للتربية والتعليم

إرسال تعليق

 
Top