إعداد: خالد فتاح // مهتم بقضايا التربية والتكوين – مكناس-
يشكل التكوين المستمر، في العصر
الراهن، عصر التحولات والتغيرات المتسارعة، مدخلا أساسيا لتأهيل وتطوير الموارد البشرية
في شتى المجالات المهنية والثقافية والاجتماعية،
حيث أصبح يشكل العمود الفقري لأية مجهودات تبذلها المؤسسات نحو التطوير والتجديد،
من خلال جعله عملية منظمة ومستمرة ومخطط لها، تهدف إلى إحداث تغييرات في معارف ومهارات
واتجاهات وكفايات الأفراد وفق الاحتياجات الحالية والمستقبلية للأدوار والوظائف التي
يقومون بها.
هذا البعد الاستثماري للتكوين المستمر، ساهم في الانتقال به من منظور بيداغوجي،
يختزله في عملية لنقل المعارف من شخص إلى آخر؛ إلى منظور سوسيوبيداغوجي ومهني يعتبره
توليفة للعديد من العناصر الفردية والتنظيمية والتعلمية والمهنية[1]. من هذا المنظور،
فالإجراءات والتدابير المرتبطة بالتكوين المستمر أصبحت، في الآونة الأخيرة، تستند إلى
أسس ما يعرف بهندسة التكوين، والتي يشكل فيها تقييم وجاهة وفعالية دورات التكوين المستمر،
الأهمية البالغة.
يعرف "مارك دينري" (Marc Dennery) تقييم التكوين بجملة الأنشطة الهادفة إلى تحليل
تأثيرات التكوين على المستفيدين منه، أو رصد جودة نشاط أو مشروع تكويني معين، أوتحليل
فعالية نظام التكوين في مؤسسة ما وأثره على أدائها العام[2]. وتجدر الإشارة، أن تقييم
التكوين يمكنه أن يتجه نحو تقييم سيرورة التكوين أوتقييم نتائجه أوهما معا. فتقييم
سيرورة التكوين يرتبط بتقييم مختلف الإجراءات والتدابير والأنشطة المتخذة من أجل تحقيق
النتائج المنتظرة منه. أما تقييم نتائج التكوين يرتبط أساسا بتقييم مكتسبات المستفيدين
من هذا التكوين، ومدى تأثيرها على سلوكاتهم المهنية، وعلى التنظيم أوالمؤسسة التي ينتمون
إليها[3].
المحاولات الأولى لإعداد نموذج نظري شامل ومنظم لتقييم التكوين كانت مع الباحث
الأمريكي "دونالد كيركباتريك" ( Donald Kirkpatrick ) سنة 1959، حيث احتل
أهمية قصوى في أدبيات تقييم التكوين، وأصبح النموذج الأكثر شيوعا واستخداما حتى العصر
الراهن. يعتمد نموذج كيركباتريك[4]على أربعة مستويات لتقييم نتائج التكوين:
المستوى الأول: ردود الأفعال
يرتبط هذا المستوى بالمؤشرات الأولية حول درجة رضى المستفيدين عن التكوين، واستطلاع
آرائهم حول مختلف عناصره. قياس درجة الرضى، غالبا ما يتم عن طريق استمارة يعبر فيها
المستفيد عن درجة رضاه عن مختلف عناصر التكوين، كالأهداف، والمحتويات، والطرق البيداغوجية،
والوسائل المستخدمة، وكفاءة المؤطرين...إلخ.
المستوى الثاني: المكتسبات
يتعلق هذا المستوى بقياس مكتسبات المستفيدين من هذا التكوين. هذه المكتسبات
يمكنها أن تتعلق بالمعارف أو المهارات أو الكفايات أو الاتجاهات التي تسعى أهداف التكوين
تحقيقها. يعتمد في قياس هذه المكتسبات على استمارات، أو أدوات أخرى لقياس المكتسبات
كالاختبارات والروائز والمقاييس.
المستوى الثالث: السلوكات
يهدف تقييم التكوين في هذا المستوى رصد مدى مساهمة التكوين في تغيير سلوكات
المستفيدين في بيئاتهم المهنية. يمكن رصد هذه التغيرات السلوكية من خلال قياس مدى نقل
وتطبيق المستفيدين لمكتسبات التكوين في مقرات عملهم. هذا المستوى من التقييم، الذي
يمكن أن يتم بعد شهرين أو ثلاث أشهر من إجراء التكوين، يمكن الاعتماد فيه على استمارات
أو مقابلات فردية أو جماعية مع المستفيدين، أو مع مختلف الفاعلين الذين يمكنهم ملاحظة
سلوكات المستفيدين في مقرات العمل (الرؤساء المباشرين مثلا) [5].
المستوى الرابع: النتائج
يعد هذا المستوى من أهم مستويات التقييم، لكونه يتعلق بقياس آثار التكوين على
المؤسسة أو التنظيم. فمن خلال مؤشرات الأداء المحددة أثناء إعداد مشروع التكوين، يتم
التأكد في هذا المستوى من مدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتطورية للتكوين.
تجدر الإشارة أن مستوى ردود الأفعال هو الأكثر حضورا في تقييم التكوينات. أما
مستوى النتائج فنادرا ما يتم الوصول إليه، ويعزى ذلك، حسب "كيركباتريك"،
لصعوبة عزل تأثير التكوين عن تأثيرات أخرى. كما أكد على أهمية وضرورة تقييم التكوينات
وفق جميع المستويات، مشيرا لوجود علاقة سببية إيجابية بين المستويات الأربعة: فدرجة
الرضى العالية تفضي لتحكم أكبر في المكتسبات، وهو الأمر الذي يساهم في تغيير سلوكات المستفيدين المهنية، وهو ما يخلف آثارا
إيجابية على التنظيم أوالمؤسسة بشكل عام[6].
الانتشار الواسع لاعتماد مستويات نموذج دونالد كيركباتريك في تقييم التكوينات،
فسح المجال أمام العديد من الباحثين لرصد حدوده على المستوى العملي والمفاهيمي. وهو
الأمر الذي ساهم في تطوير نماذج أخرى لتقييم
التكوين ندرج بعضها في الفقرة الموالية.
نموذج جاك فيليبس ( Phillips
Jack )
قدم "فيليبس"، نموذجا لتقييم التكوين من خمس مستويات، وذلك بإضافة
مستوى خامس للمستويات الأربعة لنموذج "كيركباتريك"، أطلق عليه مستوى عائد
الاستثمار. هذا المستوى يحيل على تحليل المردودية الاقتصادية للتكوين. وقد اقترح
"فيليبس" لتحليل هذه المردودية، الاعتماد على مؤشر عائد الاستثمار(Retour sur investissement(ROI))، والمتمثل في خارج الربح الصافي للتكوين على كلفته.
نموذج CIRO [7]
بناء على أعمال "كيركباتريك" و"ستيفلبيم"[8] ، أعد
"وور" (warr ) وزملائه سنة 1970، نموذجا لتقييم التكوين أطلق عليه إسم (CIRO). يعتمد هذا النموذج على
التقييمات التالية:
تقييم سياق التكوين (Contexte)، من خلال تحليل البيئة المرتبطة بحاجات التكوين وأهدافه والإشكالات
والصعوبات التي يمكنها أن تعيق نجاحه؛
تقييم مدخلات التكوين (Input)، ويتمحور بشكل كبير حول الموارد البشرية والمادية والمالية،
التي ستوظف لتحقيق أهداف التكوين؛
تقييم ردود الأفعال (Réactions)، وتتعلق بالكيفية التي تم بها توظيف تلك المدخلات لتحقيق أهداف التكوين.
كما يرتبط هذا التقييم بردود أفعال المستفيدين عن التكوين، ويسمح بالتعرف، ولوبشكل
جزئي، على مستوى تحقيق أهدافه البيداغوجية؛
تقييم مخرجات التكوين (Output)، ويتمثل في تقييم مختلف النتائج المحققة عبر هذا التكوين.
وقد ميز "وار" وزملائه، بين ثلاثة مستويات جزئية في هذه المخرجات، تحيل على
مستويات نموذج "كيركباتريك" وهي: نتائج مباشرة (التعلمات)، ونتائج وسطية
(السلوكات)، ونتائج نهائية (النتائج).
إضافة للنماذج المشار إليها أعلاه،
نشير أن هناك العديد من نماذج تقييم التكوين التي طورت استنادا إلى أعمال
"كيركباتريك"، لن يسع المجال لبسطها في هذه المقالة[9].
أكيد أن التكوين المستمر يعد عملية تتداخل فيها عدة عوامل نفسية واجتماعية ومهنية،...وهوما
يجعل هندسة وتقييم هذه العملية ليس بالمهمة اليسيرة، وذلك لصعوبة حصر جميع المتغيرات
المتدخلة في إعداده وفي نتائجه. وعليه، سيبقى ما قدم في هذا المقال محاولة لفتح المجال
أمام المزيد من تعميق التفكير حول التكوينات المستمرة في أفق بناء نماذج لهندسة وتقييم
أنشطة التكوين المستمر تسهم في ضمان جودتها والرفع من فعاليتها ونجاعتها.
مراجع:
[1] Gay Le Boterf, « Comment investir en formation », Les
éditions d’organisation, Paris, 1989, P 32.
[2] Marc Dennery, « Evaluer la formation :
des outils pour optimiser l’investissement formation », ESF, Paris, 2001, P44.
[3]Abraham Pain, « Evaluer les actions de
formation », Les éditions d’organisation, Paris, 1995, P59.
[4]Marc Dennery , Evaluer la formation ,
Op Cit, PP17-18.
[5] Marie France Cannus, « Transfert des
compétences : A quoi sert la formation en entreprise? », L’Harmattan, Paris,
2006, P12.
[6] Alain Dunberry et al, Op Cit, P8.
[7] Ibid, P223.
[8] قدم Stufflebeam نموذجا
لتقييم البرامج، أطلق عليه نموذج CIPP، يتمركز حول أربع مستويات من التقييم: تقييم السياق Contexte، وتقييم المدخلات Inputs، وتقييم السيرورات Processus، وتقييم النتائج Produits.
[9] للتوسع أكثر في هذا المجال يمكن الرجوع إلى :
Maurice Gosllin, « Le rendement de la formation de la main d’œuvre en
entreprise : recensement des écrits », université Laval,
Canada.http://www.cpmt.gouv.qc.ca/publications/pdf/RECHERCHE_T3_Gosselin.pdf